تأملات ثورية
|
||
أمين معلوف وسر "الهويات القاتلة"
|
||
19/01/2013 01:25:02 م
بقلم:ماجد يوسف
|
||
كتب أمين معلوف "الهويات القاتلة" بحث شائق في بعض قضايا الفكر العربي المعاصر، منعكسا علي مرآة الراهن الفكري المطروح في العالم كله الآن.. حول قضايا العولمة والهوية والآخر.... إلخ.والطريف في الكتاب - من وجهة نظري طبعا - ليس ما احتواه من أفكار والتماعات مهمة بدون شك في الموضوع المطروح.. وإنما اهتمامي القديم بسبر أغوار (كل) كاتب مبدع في الرواية أو الشعر أو القصة أو المسرح.. إلخحينما يكتب (فكرا) ويضبط متلبسا بالتجريد النظري والتحليل العقلي، والتأمل الفكري.. بعيدا عن حرارة الفن، وسخونة الإبداع.. ومن هنا كان انشدادي لهذا الكتاب الفكري للكاتب الروائي المبدع أمين معلوف.وأمين معلوف - لمن لا يعرفه من القراء الأعزاء - روائي لبناني معاصر من طراز رفيع وخاص.. يعيد قراءة بعض المنعطفات والمفاصل المهمة في تاريخنا العربي والإسلامي، بل أكاد أقول.. في تاريخ الشرق كله.. قراءة روائية خاصة ومبدعة.. شديدة العمق وشديدة الجمال في آن معا.. وقد أصدر علي التوالي رواياته: "الحروب الصليبية كما رآها العرب" و"ليون الأفريقي" و"سمرقند" و"حدائق النور" و"القرن الأول من بياتريس" و"رحلة بالداسار".. وغيرها وربما أتيح لنا الحديث عن أعماله الروائية الجميلة في سياق آخر، وهو يكتب بالفرنسية، ويقيم في فرنسا منذ العام 1976، وقد ترجم معظم أعماله إلي العربية المترجم المجيد عفيف دمشقية.٠٠٠الفكرة المحورية لكتاب "الهويات القاتلة" لمعلوف، تتخلص في أن... الإنسان المعاصر في أي مكان من العالم، تساهم في تكوين هويته العميقة.. العديد من المصادر المتباينة ثقافيا واجتماعيا وبيئيا وعقائديا وتراثيا وفلكلوريا وعالميا أيضا، وأن ابتسار هذه العناصر المتكثرة في بعد واحد يمثل إفقاراً للشخصية الإنسانية السوية من ناحية، ويسهم - بالضرورة - في خلق آلية ممكنة "للتعصب" وفرصة محتملة للانغلاق، وهو لا يدعو بذلك - كما قد يبدو لوهلة - إلي تمييع مفهوم "الهوية" بل إلي تصورات متسعة الأفق له تتسم بالرحابة العقلية، والروح الهيومانية، والحس الإنساني.. ولذلك فهو يؤكد علي أن "الهوية" الحقة هي في حال نمو وتطور باستمرار، وينفي عنها التحدد القطعي النهائي لمرة في سياق العمر، ومن ثم، انتهاء الأمر عند هذا الحد.. إذ أن ذلك هو "الانغلاق" بعينه، الذي يحبس الماء والهواء والتنفس عن الخلايا الحية لهذه الهوية، ويحكم عليها بالجمود والتحجر الذي يقود بطبيعة الحال إلي الدوجمائية والتعصب!وانطلاقا من هذه الفكرة، يفرق معلوف بين "العقيدة" كجوهر - أية عقيدة - وبين التجليات التطبيقية لها لدي شعث من الشعوب في مرحلة تاريخية بعينها، لأن تجليات العقيدة المعينة في أزمنة تاريخية متعددة، وفي أمكنة مختلفة، يكون سلها تمثلات شديدة التباين باستمرار، برغم الوحدة المفترضة للمنبع، وهو يدعو في هذا السياق - من ثم - إلي قراءة العقائد في حراكها البشري، وتجسدها الاجتماعي، وتصوراتها التاريخية، وتبلوراتها الحية.. التي قد تباعد - في معظم الأحيان - بين "الجوهر النقي" لعقيدة ما وبين تمظهرها في حياة الناس اليومية، بطريقة قد تضاد هذا الجوهر النقي نفسه.وهو يري أن "..... أي ديانة - علي غرار الديانات والعقائد الأخري - تحمل في كل عصر بصمات الزمان والمكان، وهكذا، تجسد المجتمعات إطمئنانها وثقتها من نفسها.. في ديانة مطمئنة وهادئة ومنفتحة، في حين تكون الديانة في المجتمعات المتزعزعة متقوقعة ومتزمنة ومتشددة.. وتتجلي المجتمعات الديناميكية في مجتمع إسلامي ديناميكي وتحديثي مبدع، في حين ترخي المجتمعات الجامدة بوطأتها علي الإسلام الذي يصبح متحجرا ورافضا لأي تغيير...."وهو يطرح سؤالا في هذا السياق، يؤكد مقولته تلك بهذا الشكل..لماذا استطاع الغرب المسيحي الذي عرف تاريخا طويلا من التشرد، وعجز دائما عن التعايش مع (الآخر).. أن يولد مجتمعات تحترم حرية التعبير.. في حين أن العالم الإسلامي الذي طالما مارس التسامح يبدو اليوم معقلا للتطرف الديني؟!"..المهم أنه يشدد في هذه الجزئية علي أنه ".. لا يجب دراسة جوهر العقيدة، بل سلوكيات الذين يدينون بها عبر التاريخ..."ويري معلوف أن ظاهرة التطرف الديني المعاصر (عموما) وفي دول العالم الثالث (خصوصا) لا يمكن فهمها بمنأي عن سقوط الاتحاد السوفيتي وانهزام الشيوعية وانفراد أمريكا بالعالم، وأيضا بالآفاق المسدودة التي تواجهها معظم دول العالم الثالث، تحث أنظمة حكم عسكرية في الغالب، لا ديمقراطية في الواقع، وديكتاتورية في معظم الأحيان، وتابعة دائما.. ولعل السبب الثالث والأخير يتبدي في تلك الأزمة التي يعاني منها النموذج الغربي ذاته، وتشكل معضلاته الروحية العميقة، والتي تجسدت بقوة - بعد الحربين العالميتين - في معطيات الفن والأدب والفكر الفلسفي والمسرح والسينما.. الخ، وعبرت عن أزمة الفرد الأوروبي في ظل أنظمته الديمقراطية، وشعوره بالاغتراب والتسلع والتشيؤ في خضم المنظومة الحاكمة المستحكمة لاقتصاد رأسمالي عتيد، وهيمنة أمريكية طارئة!٠٠٠ثم يصل بنا أمين معلوف، في كتابه، إلي مسألة العولمة، التي تباينت المواقف في مواجهتها بين الرفض والقبول، ليري اننا ازاء التقدم التكنولوجي العظيم الذي تتسارع عجلته منذ بضع سنوات، والذي أحدث في حياتنا تحولا جذريا، لاسيما في مجال الاتصال والحصول علي المعرفة لن يجدي نفعا التساؤل عما إذا كان هذا التقدم (جيدا) أو (سيئا) فهو ليس بمشروع خاضع للاستفتاء، بل حقيقة واقعة، غير أن الطريقة التي سيؤثر بها هذا التقدم علي مستقبلنا.. ترتبط بنا إلي حد كبير!وهو لا ينكر في نفس الوقت تلك الجوانب التوحيدية (بالمعني السلبي) في العولمة.. فمفاهيم القرية الواحدة، وثورة الاتصال، والإعلام المشترك، والبث الفني الموحد في العالم كله للسينما الهوليوودية، ونجوم الغناء الأمريكي، وثقافة الهامبورجر والكوكاكولا والتيك آواي.. تؤدي علي المدي البعيد - أو يخشي أن تؤدي - إلي نوع من التنميط والإفقار والقضاء علي الطوابع الحضارية الفريدة للأمم المختلفة، وعلي التنوع الثري لثقافات الشعوب لحساب نمط مهيمن وطابع مسيطر.. وفي هذا السياق العولمي المتجه إلي التوحيد والتنميط والقضاء علي ثراء التنوع وغني التعدد.. يطرح هذا السؤال - الدال في الحقيقة - علي الإنسانية كلها: ".. لماذا نهتم بتنوع الفصائل الحيوانية والنباتية، ولا نهتم - تقريبا - بتنوع الثقافات البشرية؟!".ومعلوف يحذر - برغم كل ذلك - عالمه العربي من : "... التقوقع في ذهنية ضحية الاعتداء الأكثر تدميرا للضحية من الاعتداء نفسه.."٠٠٠وفي الشأن العربي الداخلي، يتوقف معلوف وقفات قصيرة وعابرة - ولكنها دالة جدا - للحديث عن بعض تجاربه وانطباعاته عن الواقعين اللبناني والعربي، فيري مثلا:"... ان التجربة اللبنانية بالرغم من اخفاقاتها تبقي - في نظري - أشرف من تجارب أخري في الشرق الأدني وغيره، تلك التي لم تسفر عن اندلاع حرب أهلية (أو ليس بعيد) ولكنها أرست استقرارها النسبي علي القمع والطغيان والتطهير والتمييز الفعلي.."وهو يري تصاعد حركات التطرف الديني في العالم العربي الإسلامي.. نتيجة طبيعية للانحباس السياسي، والامتناع الديمقراطي، والانخراس التعبيري:عندما تخنق كل الحريات السياسية أو النقابية أو الأكاديمية، تصبح أماكن العبادة الأماكن الوحيدة التي يمكن التجمع فيها والمناقشة والشعور بالتضامن في المحن والشدائد"..ولذلك فهو يحذر من خطورة تلك الأنظمة الاستبدادية التي تزعم (الديمقراطية) وتدعي العلمانية فيقول: تبدو الأنظمة الديكتاتورية العلمانية المزعومة موائل للتطرف الديني، فالعلمانية دون ديمقراطية كارثة للديمقراطية والعلمانية علي حد سواء"..وهو لا يري مخرجا من الأزمات المستعصية للأنظمة العربية - كحد أدني - إلا بإعمال العقل في مسألة واحدة - علي الأقل - تبدو بسيطة للغاية، ولكن تحقيقها يبدو في غاية الصعوبة، حتي الآن علي الأقل:فالهدف العقلاني الوحيد، الهدف المشرف الوحيد، يقوم علي السعي. من أجل أن يعامل كل فرد كمواطن كامل بغض النظر عن انتماءاته" ولا يري معلوف بديلا عن احترام الفردية.. والشخصية الفردية الإنسانية، وحق "الفرد".. حتي أنه من فرط تقديره لهذه الفردية، يقرأ بعض الحقائق الديمقراطية المستقرة في الأدبيات السياسية قراءة خاصة جدا ولكنها أصيلة، وإن غلب عليها نظرة الفنان المبدع.. فهو لا يقر - مثلا - بحق الأغلبية في الانتخابات العامة، إذا قرثب عليه (هذا الحق) الظلم الجماعي للمستضعفين والأقليات مثلا.. فيقول:لا يقوم دور الديمقراطيين في كل أرجاء العالم علي إعطاء الغلبة لميول الأكثرية، بل علي احترام حقوق المستضعفين، ضد قانون العدد لو اقتضت الحاجة".ومن التماعاته الجميلة في هذا السياق، والصحيحة أيضا، قوله:إن ما هو مقدس في النظام الديمقراطي هو القيم وليس الآليات، وما يجب احترامه بالمطلق ودون أي تنازل.. هو كرامة البشر، نساء ورجالا وأطفالا، بغض النظر عن معتقداتهم، أو لون بشرتهم، أو أهميتهم العددية، ويجب تكييف نظام الاقتراع مع هذا الشرط.."ثم في نهاية كتابه تغلب الطبيعة الفنية والأدبية علي الكاتب الروائي المبدع أمين معلوف، حيث ينهي كتابه بهذه الفقرة الدالة: هذا الكتاب الذي ليس ترفيها ولا عملا أدبيا، فسوف أتمني بشأن أن يكتشفه حفيدي يوما وقد أصبح راشدا بالصدفة في مكتبة العائلة، فيتصفحه، ويقرأ بعض صفحاته، ثم يعيده فورا إلي الرف المليء بالغبار حيث تناوله مستخفا ومندهشا للحاجة إلي قول هذه الأمور في الزمن الذي عاش فيه جده.!! |
تأملات ثورية أمين معلوف وسر "الهويات القاتلة"
وصف الكاتب هنا يمكن تعديل هذا الوصف من داخل القالب
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة
(
Atom
)
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق