‮ ‬الشاعر الألماني جوته‮ ..‬ لماذا أحب‮ ‬تراث العرب وكرهه الفرنسي ديدرو؟

‮ ‬الشاعر الألماني جوته‮ ..‬ لماذا أحب‮ ‬تراث العرب وكرهه الفرنسي ديدرو؟
19/01/2013 01:27:40 م

بقلم : د‮. ‬محمد بدوى مصطفى - ألمانىا‮ ‬
جوته

إذا سألنا أنفسنا عن عدد الأدباء والمثقفين الذين يهتمون لأمر الحضارة العربية في الألفية الثالثة فسوف نفقد وقتا كثيرا في البحث عن هؤلاء دون الوصول إلي نتائج مرضية‮. ‬أهَلْ‮ ‬صارت الثقافة العربية لا تُهم أهل العلم بالغرب مقارنة باهتمامنا نحن الآن بثقافاتهم؟ إن من الأمثلة التي لا تكرر والتي من المستحيل أن تجود بها الأزمنة بسهولة هو مثال الشاعر الفذ‮ (‬جوته‮) ‬الذي سُمِّيت معاهد اللغة الألمانية باسمِهِ‮. ‬يعتبر‮ (‬جوته‮) ‬من جملة الأدباء الألمان مثالاً‮ ‬بارزاً‮ ‬للصلات المتبادلة بين التراث الشرقي والغربي وكان‮ (‬لجوته‮) ‬نصيب عظيم في الاهتمام بالحضارة الإسلامية وبرسولها محمد‮ (‬صلي الله عليه وسلم‮) ‬وهذه الحقيقة تُعتبرُ‮ ‬من أبرز الشئون ذات الأثر العظيم في حياة الشاعر‮. ‬لقد أحبَّ‮ (‬جوته‮) ‬التعاليم الإسلامية وافتتن بها فكان القرآن من أحبِّ‮ ‬الأسفار إلي نفسه ولقد عبَّر عنه علانية عندما بلغ‮ ‬الكبر بقوله‮: ‬إني أُبَجِّلُ‮ ‬تلكم الليلة التي أنزل الله فيها القرآن كاملاً‮ ‬علي رسوله محمد‮. ‬لم يتأثر هذا الشاعر الفذ بالإسلام وفلسفته فحسب بل ملكت لُبَّهُ‮ ‬آلهةُ‮ ‬الشعر العربي التي تجلَّت لهُ‮ ‬في بلاغة امرئ القيس وتصوير لبيد وشفافية المتنبي ومُجونية أبي تمام‮. ‬إن الديوان الشرقي والتعليقات التي كتبها‮ (‬جوته‮) ‬لفهم هذا الأخير تحمل في طياتها أعظم الدلائل التي تقف برهانا قاطعا علي اتصاله الوثيق بالتراث العربي الإسلامي،‮ ‬فهو قد انتهج فيه نهجا آخر أضفي علي مادته الشعرية رونقا بديعا في أصالته‮. ‬فلنأخذ قصيدة‮ (‬هجرة‮) ‬التي كتبها عام ‮١٨١٤ ‬وسماها بنفس الاسم العربي‮ (‬هجير‮) ‬من سفر مغني نامة‮ ( ‬كتاب المغني‮) ‬وهو يدعو فيها نفسه للهجرة إلي الشرق الْمُشرِق الصافي حيث مَهد الأنبياء والرسل والهداة حيث الكرم الحاتمي والضيافة الطائية،‮ ‬وهناك قصائد كثيرة تحمل في معانيها حب التراث العربي الإسلامي،‮ ‬مثال كتاب‮ (‬زليخة نامة‮) ‬الذي نجد فيه تناصاً‮ ‬وافياِ‮ ‬مع سورة يوسف في القرآن‮.‬

فإن قارنَّا‮ (‬جوته‮) ‬بالأدباء الفرنسيين فنحن نجد أن الأدباء الفرنسيين من باسكال إلي فولتير قد احتقروا الإسلام ورسوله‮ (‬محمد‮) ‬ولم يَشُّذُْ‮ ‬سوي البعض منهم،‮ ‬لنذكر علي سبيل المثال‮ (‬جان بودان‮) ‬الذي افتتن بالفكر الإسلامي و(جيوم بوستيل‮).‬

ونحن نَجِدُ‮ ‬أن كثيراً‮ ‬من الأعمال الأدبية تقف برهانا علي الصورة الْمُعتمة للتراث العربي الإسلامي في فرنسا ك(كقصيدة رولان‮) ‬التي تمتلئ بعداء مسلمي الأندلس،‮ (‬ديدرو‮) ‬كتب عن عصبية المحمديين و(جان جاك روسو‮) ‬أيضاً‮ ‬في‮ (‬العقد الاجتماعي‮) ‬و(مونتي‮) ‬في محاولاته في القرن ‮١٧‬،‮ ‬وكَتَبَ‮ (‬شاتوبريان‮) ‬في‮ ‬غضون القرن ‮١٩ ‬في كتابه‮ (‬السفر من باريس الي القدس‮) ‬عن فظاظة العرب وحُبِّهِم للاستعباد،‮ ‬بيد أن‮ (‬لامارتين‮) ‬في سنة ‮١٨٣٥ ‬نجده يتعاطف في كِتَابِه‮ (‬رحلة إلي الشرق‮) ‬مبديا بذلك تفتحا علي العالم الجديد أكثر من‮ (‬شاتو بريان‮)‬،‮ ‬أما فيكتور هيجو‮ (١٨٠٢ - ١٨٨٥) ‬فهو يفهم التراث العربي الإسلامي مِن وِجهَة نَظَرِهِ‮ ‬كشاعر،‮ ‬والإسلام في نظرهِ‮ ‬عبارة عن مفهوم يتجلَّي في كتابه‮ (‬الأقدار‮) ‬وفي كتب وقصائد أخري،‮ ‬ويعبّر‮ (‬هيجو‮) ‬عن انطباعاته عن الإسلام في صورة خياليَّة رَسَمَها هو،‮ ‬تتركَّزُ‮ ‬في شهوانية وقسوة هذا الدين‮. ‬الجدير بالذكر أن هذه الانطباعات ليست وليدة السَفر الشخصي لبلاد الإسلام ولا ترتكز علي خبرة بِعُلُومِهِ‮ ‬وإنما استيحاء خيالي بحت مَبنِيّ‮ ‬علي بعض القراءات التي كتبت عن الشرق آنذاك‮. ‬ولقد كان نيرفال‮ (١٨٠٨  ١٨٥٥) ‬المعاصر لهيجو،‮ ‬يختلف عن زملائه هؤلاء في كيفية تصويره للتراث العربي والإسلامي وعبر أي وسيلة،‮ ‬ذلك أنه قام برحلات كثيرة في بلاد الإسلام كما ورد في كتابه‮ (‬رحلة إلي الشرق‮) ‬ولقد عَمِلَ‮ ‬هذا الأديب،‮ ‬كما عمل جوته في نفس الفترة،‮ ‬في تقويم حكم مُسبَق ومُجحِف عن التراث العربي الإسلامي خاصة في مسألة المرأة فكتب كتابه المشهور‮ (‬مشاهد من الحياة الشرقية‮ - ‬المرأة في القاهرة‮).‬

لقد كتبت الأستاذة‮ (‬كترينا ممزن‮) ‬المختصة بجوته والشرق في مقدمة كتابها‮ (‬جوته والعالم العربي‮) ‬الآتي‮: »‬لقد ارتبط جوته بالعرب الاقدمين وأدبهم ودينهم وآثارهم ارتباطا وثيقا نَبَتَ‮ ‬عن ولعٍ‮ ‬وميلٍ‮ ‬نابعٍ‮ ‬من أعماق دواخله،‮ ‬فنحن نجدهُ‮ ‬يخصُّ‮ ‬العرب بأسمي آيات الامتنان والتبجيل في طيَّات العديد من أعماله الأدبية وعَبرَ‮ ‬نشأتها المتفاوتة‮ . ‬فالديوان الشرقي لهذا الشاعر خير دليل لارتباطه العميق بالحضارة العربية وبحضارات شرقية أخري‮«‬

‮ ‬وكانت رؤية‮ (‬جوته‮) ‬الفريدة في التسامح وعالميَّة الأدب تعتمد في مبدئها اعتماداً‮ ‬عظيماً‮ ‬علي مبادئٍ‮ ‬قرآنية،‮ ‬فكانت رؤيته سابقة لعَصرِهِ،‮ ‬فهو يري في التبادل الفكري للعلوم الإنسانية والأدب وسيلة هامة في فهم الشعوب بعضها البعض وتقديرها لبعضها البعض وبالتالي معاملتها المتبادلة بعدل وأمانة واحترام‮. ‬لقد نشأ‮ (‬جوته‮) ‬في مناخ تَشُوبُهُ‮ ‬الحروب الشعواء والتناحر الدامي ومناخ مُعادٍ‮ ‬للتراث الإسلامي،‮ ‬لذلك كانت نظرته في إبراز صورة حقيقية وبدون حكم مُسبق عن التراث العربي في‮ ‬غاية الأهمية‮. ‬وهذه النظرة تختلف تماما عن تلك التي رسمها الأدب الفرنسي‮.‬

‮ ‬من الشعراء الذين كان لهم أعظم الأثر في أعماله الأدبية وحياته كشاعر مخضرم مثل شعراء المعلقات كامرئ القيس وعمرو بن كلثوم ولبيد وطرفة بن العبد وزهير وآخرين مثل تأبَّطَ‮ ‬شراً‮ ‬وحاتم الطائي وفي الفترات المتأخرة المتنبي‮.‬

لكن ما سر افتتان‮ (‬جوته‮) ‬بالعرب وآدابهم؟ ولماذا خصهم سواء في أعماله أو في التعليقات الكثيرة التي سطّرها لفهم الديوان الشرقي بالاهتمام الواسع والشعور بالجاذبية تجاههم؟ كان يُبجِّلُ‮ (‬جوته‮) ‬العرب كأُمَّةٍ‮ ‬بَنَت مجدها وعلمها وحضارتها علي ركائز تراثها العريق وعلي عاداتها‮. ‬كان‮ (‬جوته‮) ‬مفتوناً‮ ‬بافتخارهم وتمسُّكهم بعاداتهم وتقاليدهم وافتخارهم بأصولهم وبيئتهم وبأصالة عبقريتهم الشعرية الفذة،‮ ‬وبإحساسهم المرهف وخيالهم الفيَّاض ذي الأُفق الواسع‮. ‬كل ذلك زرع في قلبه حبَّهم وتعظيم شأنهم‮.‬

فهل لنا في هذا الشاعر الفذّ‮ ‬مِن‮ ‬عِبَر؟

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق