الإبداع والتفكير‮ ..‬ في مواجهة الابتداع والتكفير‮ ‬


حرية لإبداع والتفكير‮ (٤)‬

الإبداع والتفكير‮ ..‬ في مواجهة الابتداع والتكفير‮ ‬

29/12/2012 10:01:30 ص

بقلم : د.أحمد سخسوخ‮ ‬

في أوقات تخلف الأمم‮ ‬،‮ ‬يصبح اللعب بالدين تجارة رائجة‮ ‬،‮ ‬كما عبر بن خلدون‮. ‬والتكفير الذي يمارسه من يكفرون الآخر،‮ ‬ماهو إلاسلاح العجزة والجُهاَل والصبية الذين لا يستطيعون مناهضة الفكر بالفكر‮ ‬،‮ ‬كما يصفهم أحد ضحاياهم د.نصر حامد أبو زيد،‮ ‬والذي مات مقهوراً‮ ‬ممزقاً،‮ ‬ومحطماً‮ ‬بسبب مواقفهم تجاهه باسم الدين‮ ‬،‮ ‬وهم منه براء‮. ‬فمن المخجل‮  ‬كما يقول ضحيتهم أبو زيد‮- (‬أن يوصف بالكفر من يحاول ممارسة الفكر،‮ ‬وأن يكون‮ "‬التكفير هو عقاب‮ "‬التفكير‮" ‬هو مخجل في أي مجتمع،‮ ‬وفي أي لحظة تاريخية‮ ‬،‮ ‬وهو كارثة‮ .) ‬

تكفير الآخر‮ :‬

هل من حق أحد تكفير أحدً‮ ‬آخر باسم الدين لمجرد الاختلاف معه في الفكر‮ ‬،‮ ‬وهل يجوز لأحد التفتيش في عقيدة مبدع أو باحث أو مفكر،‮ ‬ومحاكمة ضميره وشق صدره لمصادرة إبداعه أو اجتهاده العلمي أو إطلاق الرصاص علي رأسه لمجرد الاختلاف مع تلك الأفكار التي تحويها رأسه ؟‮  ‬لقد أطلقوا الرصاص علي رأسه‮ ‬،‮ ‬وما كانت كتابات أبو زيد إلا دفاعاً‮ ‬عن التراث وعن العقل وعن الإسلام الصحيح والاجتهاد في تفسيره‮. ‬كانت اجتهاداته عند النفعية وضد التزييف للمتأسلمين،‮ ‬وهو الذي قال في كتابه‮ (‬التفكير في زمن التكفير‮)‬،‮ ‬أن‮ : (‬النور لا يضر العيون السليمة،‮ ‬بل يصيب ضعاف البصر والبصيرة بالعمي الكلي‮ ‬،‮ ‬هؤلاء هم أعداء النور والحرية والأوصياء علي العقول والأبدان‮.)‬

قضية باحث‮ :‬

تبدأ قضية د.نصر حامد أبو زيد في بداية تسعينيات القرن الماضي بتكفيره من قبل عبد الصبور شاهين‮ ‬،‮ ‬وكان شاهين يؤم الناس ويخطب فيهم أيام الجُمع في جامع عمرو بن العاص،‮ ‬وكان أميناً‮ ‬للجنة الشئون الدينية في الحزب الوطني الديمقراطي الفاسد والمنحل،‮ ‬كما كان يعمل‮  ‬في الوقت نفسه‮  ‬مستشاراً‮ ‬لشركات توظيف الأموال التي نهبت مدخرات المصريين‮ ‬،‮ ‬وذلك بكتابته لتقرير فضائحي أو مكارثي،‮ ‬يُكفر فيه عالم جليل هو الاستاذ المساعد بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة،‮ ‬الدكتور نصر حامد أبو زيد،‮ ‬وبالطبع أكد هذا التكفير وشارك فيه ثروت أباظة وكيل مجلس الشوري في النظام الفاسد،‮ ‬وحواريوه في جريدة اللواء الإسلامي وقد تعرض أبو زيد لهجمة شرسة وتكفير من أصحاب الخطاب الديني،‮ ‬لأنه قال إن الخطاب الديني،‮ ‬ما هو إلا اجتهادات بشرية لفهم نصوص الدين،‮ ‬وتظل النصوص الدينية مقدسة دون أن ينسحب هذا علي التفسير البشري للخطاب الديني،‮ ‬الذي كان أبو زيد ينتقده بشكل علمي وموضوعي‮ .‬

ثلاثة عشر بحثاً‮ ‬للترقية‮ :‬

وفي هذا الاتجاه رفض أصحاب الخطاب الديني الذي يهاجمهم أبو زيد أبحاثه التي وصلت إلي ثلاثة عشر بحثاً‮ ‬للحصول علي درجة الاستاذية‮ ‬،‮ ‬وقد وصل الأمر إلي تكفيره‮ . ‬ومن الأبحاث التي تقدم بها للترقية‮ .‬

    سلطة النص في مواجهة العقل‮ ‬

    محاولة قراءة المسكوت عنه في خطاب ابن عربي‮ .‬

    إهدار السياق في تأويل الخطاب الديني‮ .‬

    مركبة المجازر من يقودها وإلي أين‮ .‬

    التأويل في كتاب سيبويه‮.‬

وغيرها من أبحاث أخري‮ ‬،‮ ‬بالإضافة إلي كتابين هما‮ :-‬

    الإمام الشافعي وتأسيس الأيدلوجية الوسطية‮ .‬

    نقد الخطاب الديني

انتهي إثنان من المحكمين الاساتذة إلي أحقية أبو زيد للترقية،‮ ‬بينما رفض الثالث ساخراً‮ ‬من أبحاثة متهماً‮ ‬إياه بالكفر،‮ ‬وهو عبد الصبور شاهين والغريب في الأمر،‮ ‬وعلي‮ ‬غير العادة،‮ ‬اعتمدت لجنة الترقية‮  ‬مخالفة لقانون الترقية‮  ‬الحكم الأخير،‮ ‬وقد استبعدت القرارين الأولين،‮ ‬وحرمت أبو زيد من الترقية‮ ‬،‮ ‬والأغرب أن مجلس الجامعة صادق وصدق علي قرار اللجنة‮ ‬غير القانوني،‮ ‬مما أثار حفيظة مجلس قسم اللغة العربية وكلية الآداب‮ ‬،‮ ‬بل والمجتمع العلمي بكامله‮. ‬لقد دافع المجلسان عن أحقية أبو زيد العلمية للترقية‮ ‬،‮ ‬وأصالة اجتهاداته،‮ ‬مدافعين عن حريته في البحث العلمي،‮ ‬ولكن إدارة الجامعة لم تأخذ برأيهما وهو حق أصيل لهما علمياً‮ ‬وقانونياً‮ ‬،‮ ‬وكان فضيحة علمية وأخلاقية‮ :‬

قرار الإدارة فضيحة علمية وأخلاقية بمعني الكلمة‮ ‬،‮ ‬وكان بقعة سوداء في تاريخ الجامعة العلمي المشرف‮ .‬

إن ما أثار عبد الصبور شاهين،‮ ‬هو تعرض نصر أبو زيد بالنقد لشركات توظيف الأموال،‮ ‬التي كان عبد الصبور يوظف فكره الديني في خدماتها،‮ ‬خاصة مجموعة الريان،‮ ‬مما لمس عصباً‮ ‬عارياً‮ ‬لدي عبد الصبور،‮ ‬ولم يصادر عبد الصبور أستاذية أبو زيد فقط،‮ ‬وإنما تعدي ذلك إلي استخدام الجامع للهجوم عليه محرضاً‮ ‬المصلين في مسجد عمرو بين العاص ضده‮ ‬،‮ ‬حتي اشتعلت المعركة داخل بعض الجوامع من قبل أصحاب عبدالصبور ضد أبو زيد،‮ ‬لمجرد أنه اجتهد في التفسير،‮ ‬ولمجرد أنه كشف عصباً‮ ‬عارياً‮ ‬لأحد المستفيدين من شركات توظيف الموال‮ .‬

هل كان من قبيل المصادفة‮  ‬كما يقول نصر حامد أبو زيد‮ ( ‬أن ترد المادتان اللغويتان‮ »‬كفر‮« »‬وفكر‮« ‬إلي جذور واحدة ؟ ليس ذلك منطقياً‮ ‬من منظومة علم اللغة‮ ‬،‮ ‬فالفارق في ترتيب الحروف بين الصيغتين،‮ ‬فارق دال علي أن‮ »‬التفكير‮« ‬حين ينقلب علي نفسه‮ ‬،‮ ‬ويخون أدواته،‮ ‬تحل الكاف محل الفاء وتتقدمها،‮ ‬فينقلب التفكير‮ "‬تكفيراً‮" ‬هنا يفقد كل خصائصه السابقة،‮ ‬كما فقدت الكلمة خصائصها الصوتية عن طريق هذا التقديم والتأخير،‮ ‬ويتحول إلي‮ »‬جهالة‮« ‬عمياء لا هم لها إلا القتل،‮ ‬ولا فارق أن يكون القتل بالكلام أو أن يكون بالسلاح،‮ ‬ما دام‮ »‬الجهل‮« ‬متجذراً‮ ‬في بنية العقل في الحالتين‮(‬1‮) .. ‬ويطلق أبو زيد علي هؤلاء الجهالة‮ (‬جوقة التكفير‮)‬

بين الدين والتأويل‮ :‬

إن أبو زيد يفرق بين الدين أو النصوص الدينية،‮ ‬وبين الفكر الديني أو التأويل الديني أو ما يسميه بالخطاب الديني،‮ ‬أي يفرق بين فهم النصوص الدينية وتأويلها،‮ ‬وبين النصوص ذاتها‮ ‬،‮ ‬وهو بذلك يحاول أن يقدم فهماً‮ ‬موضوعياً‮ ‬للدين،‮ ‬لكي يحتل مكانه الصحيح في المجتمع والحياة‮ .‬

وهو في ذلك كان يسعي إلي نزع قناع القداسة عن فكر بشري،‮ ‬في الوقت الذي يضفيه علي النص السماوي المقدس‮ .‬

الاغتيال بالجسد والفكر‮ :‬

في الثامن من يونيو عام‮ ‬1992‮ ‬دفع فرج فودة حياته في الطريق العام ثمناً‮ ‬لاجتهاداته الفكرية،‮ ‬بعد أن اغتالته رصاصة تكفيريه‮ ‬،‮ ‬وبعدها بعدة أشهر اغتيل أبو زيد بجرة قلم داخل جدران المحفل العلمي بجامعة القاهرة‮.‬

فقهاء السلطة‮ :‬

في كتابه‮ (‬نقد الخطاب الديني‮) ‬يؤكد أبو زيد خطورة الاستخدام النفعي للدين مدلَّلا علي ذلك بظاهرة شركات توظيف الأموال،‮ ‬وكان عبد الصبور شاهين وثيق الصلة بهذه الشركات التي قامت بأكبر عملية نصب في تاريخنا المصري‮ .‬

وفي هذا الكتاب يطرح أبو زيد الفارق الأساسي بين نصوص الدين باعتبارها نصوصاً‮ ‬مقدسة‮ ‬،‮ ‬وبين الفكر الديني المتمثل في الإطروحات التي تعبر عن عقلية من يقوم بهذا التحليل أو التفسير المتغير من زمن إلي آخر‮ ‬،‮ ‬ومن عصر إلي عصر آخر،‮ ‬وأبو زيد في ذلك يرفض احتكار هؤلاء المفسرون للدين وللحقيقة المطلقة،‮ ‬وهو ينتهي أيضاً‮ ‬إلي خطورة التسليم باجتهادات السلف دون إعمال العقل‮ . ‬وفي كتابه يري أبو زيد أن الدعوة الإسلامية،‮ ‬كانت جوهرها دعوي لتأسيس العقل‮ ‬،‮ ‬ولكن فقهاء السلطة انتهوا بهذه الدعوي إلي نفي العقل‮ .‬

وهو يؤكد أن النصوص القرآنية،‮ ‬هي نصوص مقدسة وثابتة،‮ ‬ولكن المتغير هو فهم هذه النصوص وتأويلها‮ .‬

وهو يحذر من أسلمة الفنون والثقافة تلك الدعوي التي يتبناها رجال الدين‮ ‬،‮ ‬حيث يقول أبو زيد‮: (‬وأسلمة الآداب والفنون والفكر والثقافة،‮ ‬دعوة لا تقل خطورتها عن الدعوة لأسلمة العلوم،‮ ‬إذ تنتهي كلتاهما إلي سيطرة رجال الدين علي كل مجالات الحياة‮ .. ‬إنها تنتهي إلي محاكم التفتيش التي تدين،‮ ‬بل تجرم كل اجتهاد إنساني في كل المجالات المعرفية‮.) ‬وهو يؤكد أنه علينا في النهاية أن‮ (‬نفهم النص بالحياة،‮ ‬لا نفهم الحياة بالنص‮) ‬وفي أحد حواراته يؤكد أبو زيد أن‮ (‬الفهم الصحيح للظاهرة الدينية‮ ‬،‮ ‬هو فهمها كظاهرة تاريخية ذات سياق،‮ ‬وليست ظاهرة تمثل جوهراً‮ ‬ثابتاً‮ ‬متعالياً‮ ‬علي التاريخ‮)... ‬وهو يعني بذلك فهم النص الديني في ظل المتغيرات التاريخية‮ ‬،‮ ‬وهنا يطرح سؤالاً‮ ‬عن كيفية التمسك بحرفيات تجاوزها الوعي البشري في ذلك يضرب مثالاً‮ ‬من بعض الآيات الكريمة‮ (‬فانحكوا ما طاب لكم من النساء‮... ‬أو ما ملكت أيمانكم‮.)‬

وهو ينفي التمسك بحرفية هذا النص،‮ ‬لأن تطور البشرية قد ألغي نظام الرق‮ .‬

وينتهي بذلك إلي مقولة‮ : (‬ألا يكون النص هو المحدد لمرحلتي التاريخية‮ ‬،‮ ‬بل تكون مرحلتي التاريخية هي المحدد لفهم النص‮.).. ‬بمعني أننا يجب أن نقرأ النص الديني‮ ‬،‮ ‬وفي أذهاننا هذه اللحظة التاريخية ؛ ألم يقل الرسول صلي الله علية وسلم‮ ( ‬أنتم أعلم بشئون دنياكم‮.).. ‬تماماً‮ ‬كما قال الإمام علي بن أبي طالب،‮ ‬حين رفع الأمويون المصاحف فوق أسنة السيوف وقالوا‮ (‬لا حكم إلا الله‮) .. ‬هنا قال الإمام لهم‮ : ( ‬إن القرآن خط مسطور بين دفتين‮ ‬،‮ ‬لا ينطق به وإنما يتكلم به الرجال‮.)‬



ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق